الميدان القريب مزدحم بسيارات تتقاتل بنفاذ صبر علي كل متر تراه من الاسفلت والصخب عالي، و اخيرا وجدت تاكسي متهالكا خاليا، ينم هيكله علي انه خاض معارك قتالية، اما السائق المسن فيقوده مسترخيا للخلف حتي تكاد تتصور ان كرشه الممتد حتي عجلة القيادة هو السائق الفعلي.
عادة لا اتحاور مع السائقين تحسبا للتذاكي و ادعاء المعرفة و الانفعال، لكن ذلك السائق بصوته المنخفض و علامات السكينة في قيادته و ردود فعله الزاهدة اثارت فضولي، فعلقت بان مع تقدم السن و طول ساعات القيادة يكون الزحام وتنافس السيارات ضاغطا علي الاعصاب، مستفسرا ان كان يشعر بذلك، لكنه افاد انه كان سائقا بحافلات النقل العام ويتولى القيادة منذ اربعين عاما، فاعتاد، و عاد الي حاله كما لو كانت القيادة آلية .
هو مثل كثيرين من خيل الحكومة التي تقاعدت بعد طول خدمة و ولاء ، و اضطرت للعمل لإعالة الاسرة و ارتفاع تكاليف الحياة؛ شخص يتمتع برضا و امان لا يتوافر لكثيرين ممن اغدقت عليهم الحياة ثراء، ذلك الجيل الذي لم يكن في الخمسينات و الستينات يقيس كل شئ بالمادة و المصلحة السريعة، و اعتاد ان يتوافق مع ضميره و قيم مجتمع كان متراحما و متسامحا و مسالما و ودودا في احترام و قناعة.
جال بذهني حال امثاله في دول اوروبية، حين ينتظر المواطن سن المعاش ليتمتع بحياته و سفرياته، و يحافظ غالبا علي قوامه و صحته، و وجدتني اتصور كيف تكون صحة السائق مع السمنة و ماتجلبه من امراض القلب و المفاصل و السكري، فشعرت بمزيج من الشفقة و الرثاء، و وجدتني اذكره و قد وصلت الي النادي انني امارس السباحة الطويلة رغم اني اكبر منه سنا.
ربما ظن انني استفزه، و لا اشعر بمعاناته، لكن الحقيقة انني اردت ان يفهم اهمية الحفاظ علي الصحة، فلا يكون ضيق الحال مسوغا لقلة الشعور بالاستحقاق و للتعويض بتغذية غير سليمة للشبع، و رغم اولوية الحفاظ علي الصحة ربما ما اردته ليس سهلا لو كنت في ظروف نشأته و حياته و اولوياته، لكن علي اي حال تأثرا بحال السائق استغرقت فترة السباحة لقرابة الساعة و النصف في تذكر كل شئ احمد الله عليه منذ الطفولة، فجعلت السباحة رياضة جسمانية و روحية، “ان شكرتم لازيدنكم”، و شكرا لمن وضعهم الله في طريقنا لنتعلم من تجاربهم و علاقاتنا بهم
د. هادي التونسي
طبيب وسفير سابق.