أكد الدكتور محمد الخشت رئيس جامعة القاهرة، أن المتحدثون باسم الدين انحرفوا عن طبيعته الأخلاقية النقية وغيبوا مقصده الكلي فحولوا الدين إلى سلطة ومؤسسة وكهانة، وحولوا الشرائع الأخلاقية للعمران إلى شرائع للنصف الأسفل من الجسد، مما أدى إلى انعكاس الأولويات في التعامل مع الدين، وظهر ما يسمي بالعبادة الزائفة التي تسعى لنوال اللطف الإلهي بطرق لا علاقة لها بالفضيلة الأخلاقية.
وقال الدكتور الخشت، خلال كلمته الافتتاحية بالمؤتمر الدولي “الفلسفة ورهان التقدم النظري والاجتماعي” بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية بالإمارات، وبمشاركة العلامة الشيخ عبدالله بن بيه رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، والدكتور خليفة مبارك الظاهري مدير جامعة محمد بن زايد، إننا بحاجة إلى مدونة سلوكية يتوفر فيها “الحد الأدنى الأخلاقي المشترك” أو “نواة الأخلاق التقدمية” بدلا من الأخلاق التي تقوم على الالتزام الشكلي الصوري، وعلى الطقوس والشعائر التي لا تتجاوز دائرة الحركة الجسمية إلى دائرة ارتقاء الروح.
وشدد الدكتور الخشت، على أن المجتمعات المتقدمة لم تقدمت إلا بفضل التزامها النسبي ببعض المبادئ الأخلاقية، مثل الشفافية، والاستحقاق، والمساواة، والعدالة، وإتقان العمل، والبيئة التنافسية العادلة، ومبدأ الجهد والنشاط، ومبدأ لكل حسب عمله، مشيراً إلى أن جوهر أخلاق التقدم، بل كل الأخلاق، مبدأ بسيط إذا طبقناه سوف يتقدم مجتمعنا بلا شك، لأن هذا المبدأ البسيط سوف يقضي على الغش والتدليس والاستهتار والرعونة والإهمال. كما تطرق الدكتور الخشت إلى منهج تحديد أخلاقيات التقدم، والشروط الأولية لها، وحدد مبادئ أخلاق التقدم في 19 مبدأ، وتناول طبيعة الحد الأدنى المشترك لأخلاقيات التقدم.
وأوضح الدكتور الخشت، أننا في عصر عجزت فيه المشاريع الفلسفية العربية عن إحداث تأثير حقيقي؛ واستنفدت جهودها في البحث عن فلسفة نظرية ترى شروقا من الغرب أحيانا أو ظلاما من الغرب أحيانا أخرى أو توفيقا بين غرب وشرق أحيانا ثالثة، واحتارت بين التراث والمعاصرة، فلم تستعد التراث، ولم تعش المعاصرة، وأصبحت الحاجة ماسة إلى فلسفة للفعل، فلسفة للأخلاق، ومن ثم فلسفة للتقدم، لكنها ليست أخلاق النظريات الفلسفية المجردة، وإنما أخلاقيات قابلة للتنفيذ بين الناس.
وتابع الدكتور الخشت، أن فلسفات الأخلاق لم تقدم حتى الآن توضيحا للوسائل والآليات العملية التي يمكن أن توصل لتحقيق الخير، والتي تساعد الإنسان العربي على صناعة مجتمع متقدم، ولم توضح فلسفات الأخلاق حتى الآن الشروط الأولية لأخلاق التقدم، أي الشروط التي لابد من توافرها والتي بدونها لا يمكن ممارسة أخلاقيات التقدم، فمثلما لا يمكن الزراعة الجيدة بدون مناخ وأرض خصبة فكذلك لا يمكن ممارسة أخلاقيات التقدم بدون الشروط القبلية فبدون الشروط القبلية لا يمكن أن تكون هناك إمكانية لأن تكون فاضلا، وبدون هذه الشروط لن تكون هناك إمكانية لممارسة أخلاق التقدم إلى جانب أن فلسفات الأخلاق التقليدية لم تقدم الضمانات الدنيوية التي تكفل تطابق الفضيلة والسعادة، أي أن يكون الفضلاء سعداء، والأشرار تعساء، في هذه الحياة الدنيا فهذه الفلسفات تركت مهمة إحداث التطابق إلى قوى غيبية أحيانا، ولم تعبأ بها أو تلتفت إليها أحيانا أخرى، مضيفا : إذا كانت الفلسفات القديمة استغرقت في بيان كيفية التمييز بين الخير والشر؛ فهذه مشكلة شكلية أكثر من اللازم، فالخير واضح بذاته والشر واضح بذاته، ويمكن معرفتهما بالعقل المنطقي.
وأضاف الدكتور الخشت، أنه لا شك أن الأخلاق تعارض الدين المزيف، لكنها لا تعارض الدين النقي؛ حيث أن الخلاص في الدين المزيف يتم من خلال الطقوس والشعائر، وليس من خلال الالتزام الخلقي، حيث يكون سبيل الخلاص في الالتزام الصوري المظهري بالعبادات فقط، وليس في ممارسة الأخلاق والفضيلة، وتكمن أهمية الدين النقي في أنه يقدم لنا “الأمل” في أن جهودنا النازعة إلى إقامة ملكوت الأخلاق والعدالة والسعادة لن تضيع عبثاً، وتكمن أهمية علم الأخلاق الفلسفي بالنسبة إلى الدين في أنه يساهم في تنقية الدين من التفسيرات المشبوهة التي يقدمها له أهل الكهنوت، كما يساهم في إعادة التأكيد على الوظيفة الأخلاقية للدين، وأن العبادة الحق تكمن في السلوك الأخلاقي؛ فالدين الحق فى جوهره عمل بالقانون الأخلاقي، والسلوك الأخلاقي النابع من أداء الواجب هو العبادة الحقيقة.
وأوضح الدكتور الخشت، أنه ليس بصحيح الزعم بأن أمم الشرق المتخلفة أكثر أخلاقية من الأمم المتقدمة، ولا يقول بهذا إلا منافق أو مرائي أو مغالط أو مخدوع؛ مؤكدًا أن الوساطة والاستثناءات، وعدم تكافؤ الفرص، وعدم ثبات سلم الترقي، والانتهازية، وغيرها من الأخلاقيات المضادة للتقدم، أكثر انتشارا بين الأمم المتخلفة، مشيرًا إلى أنه يجب “أن تكون الإرادة متسقة مع نفسها” و هي القاعدة الذهبية التي اتفقت عليها كل الأديان والفلسفات رغم الاختلافات الكبيرة بينها عقائديا وتشريعيا.
كما أوضح رئيس جامعة القاهرة، أن معنى أن تكون الإرادة متسقة مع نفسها -ببساطة- ألا تتناقض مع نفسها، والإرادة المتناقضة هي التي تعطي لنفسها حقا بينما تمنعه من الآخرين، وتسوغ لنفسها فعلا بينما تحرمه على سائر الناس، أي أن تبيح الإرادة لنفسها الغش –مثلا- بينما تحرمه على الآخرين! أن تبرر لنفسها الإهمال بينما تنقده في الآخرين!، أن تمتنع من مساعدة المحتاج، بينما تطلب المساعدة عندما يكون صاحبها نفسه محتاجا! أن تستغل الآخرين بينما تحرم عليهم استغلالها! أو بعبارة بسيطة أن ترضى لنفسها ما لا ترضى للآخرين، متسائلا: أليست هذه الإرادة المتناقضة هي كلمة السر في كل قصة تخلفنا؟.