كانت الأيام الأولى في تشيكوسلوفاكيا للطالب المصري أحمد, البالغ من العمر ٢١ عاما ، حلما,فبفضل البرنامج الحكومي، عرض عليه دراسة الهندسة في كلية مرموقة في قلب أوروبا, في البداية كان من الصعب عليه أن يذهب إلى البلد الذي كان يعرف قليلا عنه من حكايات والده وأن يترك والديه وأصدقاء السنوات الطويلة, ومع ذلك, كان يعلم أنه القرار صحيح, لأنه أدرك أن هذه فرصة فريدة للدراسة في وسط أوروبا والحصول على تعليم عالي الجودة, علما أن تشيكوسلوفاكيا كانت واحدة من أكثر الدول الصناعية في العالم والعديد من الشركات التشيكية تقوم بتنفيذ الكثير من المشاريع وبناء المصانع في مختلف المجالات كما تصدر منتجاتها أيضا إلى مصر.
في ذلك الوقت كانت تشيكوسلوفاكيا دولة مستقلة، ومع ذلك كانت جزءا من الاتحاد السوفيتي بقيادة حلف وارسو العسكري ويحكمها الحزب الشيوعي. و على الرغم من ذلك، كانت لا تزال تحتفظ بهويتها كتشيكوسلوفاكيا ، و ليس حالها كحال الأمم التي أكلتها الإمبراطورية السوفيتية في دول البلطيق أو أوكرانيا أو بيلاروسيا, وكمواطن مصري ، فهم أحمد ما معنى أن تكون دولة تحت حكم إمبراطورية أخرى، ففي حالة مصر, كانت تحت حكم فرنسا و بعدها بريطانيا, و هو كان محظوظا للغاية للمجيء إلى براغ في واحدة من أكثر الفترات حسما في تاريخ تشيكوسلوفاكيا المعاصر.
تم انتخاب القيادة الجديدة لتشيكوسلوفاكيا في يناير ١٩٦٨، وأعلنت إصلاحات ديمقراطية وليبرالية في المجال السياسي والثقافي والاقتصادي, وتم السماح بحق التجمع، والحق في حرية التعبير ، وحرية الصحافة، وتم إلغاء الرقابة, و بدأ السماح للناس بانتقاد الاتحاد السوفيتي علنا للمرة الأولى, و حاول أحمد فهم ما يحدث هناك ورأى تشابهًا بين ما يعرفه عن الفترة التي كانت فيها مصر تحت الحكم الاستعماري، وفهم نظر الناس في شوارع براغ ومقاهيها تجاه الاتحاد السوفيتي في تلك الفترة, وعندها شعر أحمد بتعاطف كبير مع الأشخاص الذين كانوا يناضلون من أجل قضيتهم بطريقة سلمية.
لسوء الحظ، اعتبرت القيادة السوفيتية الإصلاحات السياسية والاقتصادية المقترحة وتحرير الحياة الاجتماعية تهديدًا للدور الرائد للحزب الشيوعي والسيطرة السوفيتية على تشيكوسلوفاكيا. لذا، قرر الاتحاد السوفيتي غزو تشيكوسلوفاكيا عسكريًا وقمع جميع أنواع الحرية والاستقلال, عندها رأى أحمد مرة أخرى كيف يمكن أن تفقد الأمة استقلالها, الاستقلال في صنع السياسات، الاستقلال في اتخاذ القرارات.
خلال الغزو، تم قتل أكثر من ١٠٠ مدني وأصيب مئات الآخرين, و كان غزوا ضخمًا, تم فيه احتلال تشيكوسلوفاكيا بواسطة ٢٦ فصيل عسكري، منهم ١٨ فصيلًا سوفيتيًا وبقية دول حلف وارسو, ودخل البلاد أكثر من نصف مليون جندي مع دباباتهم, لم ينتظر المحتلون تفهما من التشيكيين والسلوفاكيين، بل على العكس، حاول السكان المحليون مقاومتهم في العديد من الأماكن، لكن بالأسف بلا جدوى.
تم تنصيب حكومة جديدة، كانت ولائها بالكامل للنظام السوفيتي، وتم قمع جميع الحريات التي تم اكتسابها سابقا، وتم إعادة فرض الرقابة. لم تكن لتشيكوسلوفاكيا سياسة خارجية مستقلة، وتم إدارة علاقاتها مع البلدان الأجنبية من موسكو, تم وضع القوات المسلحة تحت قيادة الاتحاد السوفيتي, و تم بعدها وضع الاقتصاد بالكامل تحت سيطرة السلطات المركزية السوفيتية، وأعطى الاتحاد السوفيتي توجيهات لتشيكوسلوفاكيا حول كيفية إدارة اقتصادها, و تم استغلال الموارد المعدنية الاستراتيجية، وخصوصاً اليورانيوم لصالح الصناعة السوفيتية العسكرية.
أنهى أحمد دراسته وعاد إلى بلاده – مصر, كان يعود إلى بلد مستقل، و يترك بلدًا تحت سيطرة القوى العظمى الاستعمارية, كان شعب تشيكوسلوفاكيا مضطرأن ينتظر انهيار الحكومة الشيوعية في نوفمبر ١٩٨٩ لاستعادة استقلالهم الكامل وحريتهم, وبعدها، عاد أحمد إلى براغ مرة أخرى, في هذا الوقت، كان البلد الجديد قد ولد بالفعل – جمهورية التشيك مع الرئيس الذي كان يعجب به كثيرًا – فاتسلاف هافيل.
وخلال زيارته لــــ (براغ)، التقى بسيدة من الاتحاد السوفيتي السابق، اسمها أناستازيا. و حين اكتشفوا أن لديهم الكثير من الأمور المشتركة، كونهما مهندسين ذوي خبرة، انتقل معها إلى كييف، عاصمة أوكرانيا. وهناك، شهد كيف أن الوجود الاستعماري للاتحاد السوفيتي سبب صعوبات اقتصادية في التسعينيات. وعندما بدأت الأمور في أوكرانيا بالتحسن، بدأت روسيا القوية في الإعلان عن وجودها عن طريق رئيس الوزراء الجديد المعين فلاديمير بوتين، الذي أصبح لاحقًا رئيسًا، كان يحاول استعادة عظمة الاتحاد السوفيتي السابق وممارسة السيطرة على البلدان التي كانت جزءًا من الإمبراطورية السوفيتية سابقًا, وكان يمكنه أن يرى بعينيه الأحداث في كييف حيث كان الناس يتظاهرون في الساحة الشهيرة (مايدان) ضد الرئيس الروسي يانوكوفيتش ومن أجل مستقبلهم الأوروبي. و شهد أيضًا احتلال القرم والحرب التي شنتها روسيا في منطقة (دونباس) ردًا على الثورة الأوكرانية للكرامة. دليل أخر على إعادة الاستعمار .
في ٢٤فبراير ٢٠٢٢، كان الرجل العجوز يستمتع بيومه على شرفة شقته في كييف. كان الجو لا يزال باردًا كما هو متوقع في هذه الأيام في المدينة,كان يشتاق بعض الشيء إلى الطقس الجيد، ذهب إلى مصر الجميلة في ديسمبر كما كان يفعل كل شتاء خلال السنوات السابقة, و فجأة انطلقت صافرة جهاز الإنذار، ليس فقط في كييف، بل في جميع أنحاء أوكرانيا، وهي وطنه الثاني. غزت روسيا أوكرانيا في تصعيد لنزاعها المباشر مع أوكرانيا الذي بدأ في عام ٢٠١٤ وفشلت أن تميل البلاد إلى إرادتها, وشعر أحمد بالاندهاش و هو يرى غزو الاتحاد السوفيتي لتشيكوسلوفاكيا السابقة، أحمد لم يصدق أنها مجرد “عملية خاصة” كما وصفها الرئيس بوتين. لا، كيف يمكن ذلك؟ كان يرى السماء مليئة بالصواريخ كل ليلة من شرفته في كييف.
كان أحمد على حق , فقد تحولت “العملية الخاصة” إلى أكبر هجوم على بلد أوروبي منذ الحرب العالمية الثانية. بحلول يونيو ٢٠٢٢، احتلت القوات الروسية حوالي ٢٠٪ من الأراضي الأوكرانية, و نزح حوالي ٨ ملايين أوكراني داخلياً وهرب من البلاد أكثر من ٨.٢ مليون بحلول إبريل ٢٠٢٣، مما أسفر عن أكبر أزمة للاجئين في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية, ونتج عن الحرب ضرر بيئي واسع النطاق,و أيضا أزمات الغذاء بجميع أنحاء العالم, تم تدمير عدد كبير من المعالم التاريخية ، و يودع المزيد والمزيد من العائلات أسرهم و أحبائهم.
و في الوقت الذي كان أحمد يراقب كييف من شرفته, فكر إنه عجوز جدًا و لن يتمكن من الذهاب للقتال، ولكنه ليس عجوز لدرجة أن لا يعرف ما يحدث، وما هو الغرض من هذه “العملية الخاصة”. إنه يعلم أن أيامه تنتهي، إنه يفكر في جميع الأشخاص الذين يتركون البلاد، ويموتون من أجل أمتهم. لن يذهب إلى مصر هذا الشتاء كما فعل في السنوات السابقة. لا يستطيع ذلك. لا توجد رحلات جوية من الأراضي الأوكرانية. أوكرانيا في حرب. أحمد يحب أن يرى بلاده، مصر للمرة الأخيرة و لكن سنه كبير على السفر عشر ساعات بالحافلة. ولكن أحمد يؤمن مثل جميع الأوكرانيين، مثل زوجته أناستازيا، مثل أطفاله في الجبهة وأحفاده الصغار المفقودين في الأحداث أن أمة أخرى لن تقع في شباك الاستعمار الروسي وأن أحمد سيرى مصر مرة أخرى.