صدر حديثًا ترجمة فرنسية لكتاب “أقنعة ديكارت تتساقط” من تأليف الدكتور محمد عثمان الخشت أستاذ فلسفة الدين ورئيس جامعة القاهرة، وترجمة الدكتورة شاهندا عزت الأستاذ بقسم اللغة الفرنسية والملحق الثقافي المصري بالولايات المتحدة الامريكية، ومراجعة الدكتورة جوزين جودت الأستاذ بقسم اللغة الفرنسية وأحد أكبر أساتذة الأدب الفرنسي بالعالم العربي.
وكتاب “أقنعة ديكارت تتساقط” هو بحث علمي محكم تم نشره منذ أكثر من عشرين عاما، وتم صدور أكثر من تسع طبعات له آخرها نشره في عام 2016 ضمن سلسلة الفلسفة التي تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة، وفي صيف 2019 طلب البروفيسور جورج حداد رئيس جامعة السربون، ترجمة الكتاب إلى الفرنسية لإثراء المكتبة الفرنسية بهذه الدراسة الفلسفية عن “ديكارت” أشهر الفلاسفة الفرنسيين.
و “ديكارت” الذي يتناول فلسفته الدكتور الخشت، هو فيلسوف وعالم رياضيات وفيزيائي فرنسي، يلقب بـ “أبو الفلسفة الحديثة”، وكثير من الأطروحات الفلسفية الغربية التي جاءت بعده هي انعكاسات لأطروحاته، والتي ما زالت تدرس حتى اليوم، أبرزها كتابه (تأملات في الفلسفة الأولى) الذي ما زال يشكل النص القياسي لمعظم كليات الفلسفة. كما أن لديكارت تأثيرا واضحا في علم الرياضيات، فقد اخترع نظامًا رياضيًا سمي باسمه وهو (نظام الإحداثيات الديكارتية)، الذي شكل النواة الأولى لـ(الهندسة التحليلية)، فكان بذلك من الشخصيات الرئيسية في تاريخ الثورة العلمية.
ويبدأ الخشت كتابه “أقنعة ديكارت تتساقط”، بتحديد إشكالية البحث، ثم يناقش فلسفة ديكارت خلال فصول الكتاب: من منطق المنهج العقلي إلى منطق التسليم الإيماني، الإله والشيطان آليتان دينيتان في تفكير ديكارت، الإله باعتباره الضامن الأعلى للحقيقة، الحضور الديني اللاهوتي في الطبيعيات والرياضيات.
ويعتبر الخشت، أن ديكارت من بين الفلاسفة الذين أثاروا نوعا من الجدل في تاريخ الفلسفة بالرغم من المقولة الشائعة عنه من كونه فيلسوف الوضوح والتميز والعقلانية، ويطرح أسئلة حول فلسفة ديكارت ويقدم الإجابة عليها مستخدمًا المنهج التحليلي النقدي لفحص منهج ديكارت ومذهبه الفلسفي.
وتختلف هذه الدراسة عن كل شروح فلسفة ديكارت السابقة لأن الدكتور الخشت لا يقدم قراءة لفلسفة ديكارت في علاقتها بالدين، بل يقدم قراءة من سياق مختلف ومن منظور يجعل الأيدلوجية اللاهوتية تواجه نفسها ويكشف عنها كل أساليبها المراوغة، حيث يتجاوز الشرح النصي لفلسفة ديكارت إلى التأويل الفلسفي، عبر قراءة المذهب الديكارتي واللاهوتي للوقوف على مدى عقلانيته ولا عقلانيته، للوصول إلى المعنى الباطني للمذهب والذي يتخفى وراء اللفظ الظاهري.
ويسقط الخشت في دراسته أقنعة ديكارت العقلانية التي تقنع بها في مذهبه، فهو يعيد النظر في موقف ديكارت الفلسفي بشكل عام، مما أدى إلى بيان أن منطق منهج ديكارت يبدو منطقيا عقلانيا، لكن حين يُنظر في مذهبه يتبين أن ديكارت قد ناقض قواعد منهجه، حيث المفاهيم اللاهوتية حاضرة في بنية المذهب وتكوينه.
ويوظف هذا الكتاب، أحد المفاهيم الجديدة في دراسة الفلسفة الحديثة، وهي فكرة الاشتباه، والتي لم يتم توظيفها من قبل في مجال الفلسفة، فقد وظف الخشت لأول مرة مفاهيم ومناهج علم أصول الفقه المقاصد في دراسة الفلسفة وقام بتطبيق منهج تأويلي عقلاني على دراسة الفلسفة الغربية.
ويرى الخشت في كتابه “أقنعة ديكارت تتساقط”، أن العقلانية الديكارتية مظهرية أكثر مما هي جوهرية، إذ أن المبدأ الديكارتي الشهير “أنا أفكر” لم يكن بالقوة والرسوخ الذي يُشكل نسقًا فلسفيًا متكاملًا، وإنه لا يعدو أن يكون مبدأ هشًا يستلزم مساندة، وأن الشك الديكارتي ما هو إلا شك مصطنع وافتراضي وليس شكًا حقيقيًا يعبر عن حالة واقعية.
ويري الخشت، أن ديكارت عندما أراد أن يؤسس العلم الكلي القائم على وحدة المعرفة وضع الميتافيزيقا قبل الطبيعيات ويعني هذا أن ديكارت رفض الاعتراف بالاستقلال التام للعلم الطبيعي وأن الميتافيزيقا تلعب دورًا أساسيًا في تكوين الطبيعيات. وهو ما يرفضه الدكتور الخشت.
ويحلل الدكتور محمد الخشت، أسباب الاشتباه في منهج ديكارت وينتقل من المنهج إلي ضد المنهج، فيقول يقرر ديكارت أن ثمة مبادئ أربعة تكفي إذا تم اتباعها بدقة للوصول إلي اليقين، وأول مبدأ يحدده ديكارت بقوله “ألا أقبل شيئًا ما على أنه حق، ما لم أعرف يقينًا أنه كذلك”، ومع هذا فإن ديكارت سرعان ما يأتي بقاعدة تتضاد مع هذا المبدأ، ويصرح ديكارت بأن العقائد اللاهوتية يجب أن تكون أول ما نصدق به دون البحث في مدى وضوحها ومدى بداهتها، ولقد أدي ذلك إلي منافاة منهجه العقلاني الذي نادي فيه بطرح الأفكار التقليدية أيًا كانت وجعل معيار الوضوح والبداهة معيار الحق والحقيقة.